فصل: باب ذكر علم الله عز وجل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال عبد العزيز: فحاد بشر عن جوابي وأبا أن يصرح بالكفر فيقول: ليس لله علم، فيكون قد رد نص التنزيل فتتبين ضلالته وكفره، وأبى أن يقول: إن لله علمًا، فأسأله عن علم الله هل هو داخل في الأشياء المخلوقة أم لا؟ وعلم ما أريد، وما يلزمه في ذلك من كسر قوله وإبطال حجته، فاجتلب كلامًا لم أسأله عنه، فقال: معنى علمه أن لا يجهل. فأقبلت على المأمون فقلت: يا أمير المؤمنين لا يكون الخبر عن المعنى قبل الإقرار بالشيء، وإنما يكون الإقرار بالشيء ثم الخبر عن معناه، فليقر بشر أن لله علمًا كما أخبرنا في كتابه، فإن سألته عن معنى العلم وهذا مما لا أسأله عنه فليجبن أن الله لا يجهل، وقد حاد بشر يا أمير المؤمنين عن جوابي.
فقال بشر: وهل تعرف الحيدة؟ قلت: نعم إني أعرف الحيدة في كتاب الله عز وجل وهي سبيل الكفار التي اتبعتها.
فقال لي المأمون: يا عبد العزيز هل تعرف الحيدة في كتاب الله عز وجل؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين وفي سنة المسلمين، وفي لغة العرب. فقال: وأين هي من كتاب الله عز وجل. فقلت: قال الله عز وجل في قصة إبراهيم عليه السلام حين قال لقومه: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} وإنما قال لهم إبراهيم هذا ليكذبهم فيعيب آلهتهم ويسفه أحلامهم فعرفوا ما أراد بهم، وأنهم بين أمرين: إما أن يقولوا نعم يسمعوننا حين ندعو وينفعوننا ويضروننا، فيشهد عليهم بلغة قومهم إنهم قد كذبوا. أو يقولوا لا يسمعوننا حين ندعو ولا ينفعوننا ولا يضروننا فينفوا عن آلهتهم القدرة. وعلموا أن الحجة لإبراهيم عليه السلام في أي القولين أجابوه عليهم قائمة. فحادوا عن كلامه واجتلبوه كلاما من غير ما سألهم عنه فقالوا: {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} ولم يكن هذا جوابا لمسألة إبراهيم عليه السلام، وأما الحيدة في سنة المسلمين فيروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وقد قدم عليه فنظر إليه يكاد يتفقأ شحما، فقال: يا معاوية ما هذه الشحمة لعلها من نومة الضحى ورد الخصوم، قال له معاوية: يا أمير المؤمنين رحمك الله علمني وفهمني، ولم يكن هذا جوابًا لقول عمر رضي الله عنه إنما حاد عن جوابه لعلمه بما فيه، فاجتلب كلاما غيره فأجاب به.
وأما الحيدة في كلام العرب فقول امرئ القيس:
تقول وقد مال الغبيط بنا معا ** عقرت بعيري يا امرء القيس فانزل

فقلت لها سيري وأرخي زمامه ** ولا تبعدني من جناك المعلل

ولم يكن هذا جواباً لكلامها، وإنما حاد عن جوابها واجتلب كلاماً غيره، قال: فأقبل المأمون على بشر فقال: يأبي عليك عبد العزيز إلا أن تقرأن لله علماً فأجبه ولا تحد عن جوابه. فقال بشر: قد أجبته وأن معنى العلم لا يجهل وهذا جوابه ولَكِنه يتعنت.
قال عبد العزيز: فقلت يا أمير المؤمنين صدق أن الله لا يجهل، ولم تكن مسألتي إياه على هذا، إنما سألته أني يقر بالعلم الذي أخبر الله تعالى عنه في كتابه وأثبته لنفسه ولم أسأله عن الجهل فينفي الجهل عن الله تعالى فليقر أن لله علماً، ولينفي أن الله لا يجهل.
قال عبد العزيز: ثم التفت إلى بشر فقلت: لابد من أن تقول أن لله علما كما أخبر، أو ترد أخبار الله بنص التنزيل، أو يقف أمير المؤمنين على حيدتك عن جوابي، فجعل يقول: يا أمير المؤمنين إن نفي الجهل عنه هو جوابه وهو الذي عناه الله في كتابه وهو الذي يطالبني به واحد إلا أن اللفظين مختلفان.
قال عبد العزيز: فقلت: يا أمير المؤمنين إن نفي السوء لا تثبت به المدحة قال بشر: وكيف ذلك؟ قلت: إن قولي هذه الاسطوانة لا تجهل ليس هو إثبات العلم لها.
قال عبد العزيز: ثم أقبلت على المأمون فقلت: يا أمير المؤمنين إنه لم يمدح الله تعالى في كتابه ملكًا ولا نبيًّا ولا مؤمنًا بنفي الجهل ليدل على إثبات العلم، وإنما مدحهم بالعلم فقال عز وجل: {كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} ولم يقل لا يجهلون، وقال عز وجل لنبيه- صلى الله عليه وسلم-: {عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} وقال عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} ولم يقل الذين لا يجهلون فهذا قول الله تعالى ومدحته للملائكة وللنبي- صلى الله عليه وسلم-، وللمؤمنين فمن أثبت العلم نفى الجهل، ومن نفى الجهل لم يثبت العلم، وعلى الخلق جميعاً أن يثبتوا ما أثبت الله، وينفوا ما نفى الله، ويمسكوا عما أمسك الله، فما اختار بشر يا أمير المؤمنين من حيث اختار الله لنفسه، ولا من حيث اختار للملائكة، ولا من حيث اختار لنبيه- صلى الله عليه وسلم-، ولا من حيث اختار لعباده المؤمنين، فمن أجهل ممن اختار لنفسه غير ما اختار الله لنفسه ولملائكته ولأنبيائه ولعباده المؤمنين.
قال عبد العزيز: فقال لي المأمون: فإذا قال بشر إن لله علماً وأقر بذلك فيكون ماذا، قلت: اسأله يا أمير المؤمنين عن علم الله هل هو داخل في الأشياء المخلوقة حين احتج بقوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} فزعم إنه لم يبق شيء إلا وقد أتى عليه هذا الخبر. فإن قال: نعم فقد دخل في الأشياء المخلوقة فقد شبه الله يا أمير المؤمنين بخلقه الذين أخرجهم من بطون أمهاتهم ولا يعلمون شيئاً، وكل من تقدم وجوده قبل علمه فقد دخل عليه الجهل فيما بين وجوده إلى حدوث علمه، وهذه صفة المخلوقين، والله عز وجل أعظم وأجل من أن يوصف بذلك أو ينسب إليه، ومن قال ذلك فقد كفر وحل دمه ووجب على أمير المؤمنين قتله، وإن قال إن علم الله خارج عن جملة الأشياء وغير داخل فيها، كما أن قوله خارج عن الأشياء وغير داخل فيها، فمن ثم ترك قوله وضل يا أمير المؤمنين وثبتت عليه الحجة فيها. فقال المأمون: أحسنت أحسنت يا عبد العزيز، وإنما فر بشر أن يجيبك في هذه المسألة لهذا. ثم أقبل علي المأمون فقال: يا عبد العزيز تقول إن الله عالم. فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فتقول: إن الله سميع بصير. قال: قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: فتقول إن لله سمعًا وبصرًا. كما قلت إن له علم، فقلت، لا أطلق هذا هكذا يا أمير المؤمنين. فقال: أي فرق بين هذين؟ فأقبل بشر يقول: يا أمير المؤمنين يا أفقه الناس، ويا أعلم الناس يقول الله عز وجل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}.
قال عبد العزيز: فقلت: يا أمير المؤمنين قد قدمت إليك فيما احتججت به إن على الناس كلهم جميعا أن يثبتوا ما أثبت الله، وينفوا ما نفى الله، ويمسكوا عما أمسك الله عنه، فأخبرنا الله عز وجل أن له علما بقوله: {فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ} فقلت: إن له علماً كما قال: وأخبرنا إنه سميع بصير بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} فقلت: إنه سميع بصير كما قال. ولم يخبرنا أن له سمعاً وبصراً، فقلت: كما قال. وأمسكت عند إمساكه. فأقبل عليهم المأمون فقال: ما هو مشبه فلا تكذبوا عليه. فقال بشر: قد زعمت أن الله علماً، فأي شيء هو علم الله، ومعنى علم الله فقلت له: هذا مما تفرد الله بعلمه ومعرفته وحجب عن الخلق جميعا علمه فلم يخبر به ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً ولا علمه أحد قبلي، ولا يعلمه أحد بعدي لأن علم الله أكبر وأوسع وأعظم من أن يعلمه أحد من خلقه، ألم تسمع إلى قوله عز وجل: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء} وقال: {عَالِمُ الْغَيْبِ فلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} وقال عز وجل: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وما تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} وقال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. أتدري يا بشر ما معنى هذا؟ قال: وأي شيء هذا مما نحن فيه. فقال المأمون: قل يا عبد العزيز أنت ما معنى هذا. قلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاك يقول: ولو أن ما في الأرض من جميع الشجر والخشب والقصب أقلام يكتب بها والبحر مداد يمده من بعده سبعة أبحر بالمداد والخلائق كلهم يكتبون بهذه الأقلام من هذا الشجر ما نفذت كلمات الله، فمن يبلغ عقله أو فهمه أو فكره كنه عظمة الله عز وجل وسعة علمه وكثرة كلامه قال عز وجل: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} فمن يحد هذا أو يصفه أو يدعي علمه؟ وقد عجزت الملائكة المقربون عن علم ذلك واعترفوا بالعجز {قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} فقال بشر: لابد أن تقول أي شيء هو علم الله أو يقف أمير المؤمنين أطال الله بقاه على حيدتك عن الجواب فأكون أنا وأنت في الحيدة سواء. فقلت: إنما تأمرني بما نهاني الله عنه وحرم علي القول به، وتأمرني بما أمرني به الشيطان، ولست أعصي الله وارتكب نهيه وأطيع الشيطان وأتبع أمره وأمرك إذ قد أمرتماني بمعصية الله وارتكاب نهيه.
قال عبد العزيز: فاشتد تبسم أمير المؤمنين من كلامي فقال: يا عبد العزيز أمرك بشر بما نهاك الله عنه وحرم عليك القول به، وأمرك بما أمرك به الشيطان؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: ومن أين لك ذلك؟ قلت: من كتاب الله وكلامه بنص التنزيل. قال: هاته. قلت: قال الله عز وجل: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وما بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
فحرم الله على الخلق جميعاً بهذا الخبر أني يقولوا على الله ما لا يعلمون. وأمرهم الشيطان بضد ذلك، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وهذا أمر الشيطان لنا أن نقول مالا نعلم، وقد اتبع يا أمير المؤمنين بشر سبيل الشيطان ووافقه على قوله، وأمرني بما نهيت عنه من ارتكاب نهي الله عز وجل وتحريمه حين قال: لابد أن تقول أي شيء علم الله، وقد أعلمته أني لا أعلمه ولا علمه أحد قبلي ولا يعلمه أحد بعدي.
قال عبد العزيز: فكثر تبسم المأمون حتى غطى فمه بيده وأطرق ينكث بيده على السرير.

.باب ذكر علم الله عز وجل:

فقال لي بشر: لو ورد عليك اثنان وقد تنازعا في علم الله عز وجل، فحلف أحدهما بالطلاق: إن علم الله هو الله. وحلف الآخر بالطلاق: إن علم الله غير الله، فقالا لك: أفتنا في أيماننا فما كان جوابك لهما. قلت: الإمساك عنهما وتركهما وجهلهما وصرفهما بغير جواب.
قال بشر: يلزمك ويجب عليك إذ كنت تدعي العلم أن تجيبهما عن مسألتهما وأن تخرجهما من أيمانهما وإلا فأنت وهما في الجهل سواء.
قال عبد العزيز: فقلت لبشر: أو يجب على أن أجيب كل من سألني عن مسألة لا أجد لها في كتاب الله ولا في سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذكرا ولا علمًا قد جهل السائل عنها، وحمق الحالف عليها. قال بشر: يجب عليك أن تجيبه عن مسألته فإنه لابد لكل مسألة من جواب.
قال عبد العزيز: فقلت: هذا جهل من قائله. قال عبد العزيز: ثم أقبلت على المأمون فقلت: يا أمير المؤمنين سمعت ما قال بشر إنه يجب علي جواب من سألني عن مسألة وفتياه وإخراجه من يمينه بما لا أجده في كتاب الله ولا في سنة نبيه- صلى الله عليه وسلم-.
فلو ورد علي يا أمير المؤمنين ثلاثة نفر قد تنازعوا في الكوكب الذي أخبر الله عز وجل أن إبراهيم عليه السلام رآه بقوله: {فَلَمَا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هذا رَبِّي فَلَمَا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} فقال أحدهم: حلفت بالطلاق إنه المشتري وقال الآخر حلفت بالطلاق إنه الزهرة. وقال الآخر حلفت بالطلاق إنه المريخ. فأفتنا في أيماننا وأجبنا في مسألتنا كان علي أن أجيبهم في مسألتهم وأفتيهم في أيمانهم، وذلك مما لم يخبرنا الله عز وجل به ولا رسوله.
فقال المأمون ما ذلك عليك بواجب ولا لك بلازم.
قال عبد العزيز: فقلت له: فلو ورد علي يا أمير المؤمنين ثلاثة نفر قد تنازعوا في الأقلام التي أخبر الله عنها في كتابه بقوله: {إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} قال أحدهم: حلفت بالطلاق إن هذه الأقلام نحاساً، وقال الآخر: حلفت بالطلاق إنها خشب، وقال الآخر: حلفت بالطلاق إنها قصب، فأجبنا عن مسألتنا، وأجبنا عن أيماننا، وذلك مما لم يخبر الله به ولا رسول ولا يوجد علمه في كتاب الله ولا في سنة نبيه- صلى الله عليه وسلم-، كان علي يا أمير المؤمنين أن أجيبهم عن مسألتهم وأفتيهم في أيمانهم. فقال المأمون: لا ليس عليك إجابتهم ولا فتياهم. قال: فقلت: يا أمير المؤمنين.
فلو ورد علي ثلاثة نفر قد تنازعوا في المؤذن الذي يؤذن بين أهل الجنة والنار الذي أخبر الله عز وجل بقوله: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} فقال أحدهم: حلفت بالطلاق إن المؤذن من الملائكة. وقال الآخر: حلفت بالطلاق إن المؤذن من الإنس. وقال الآخر: حلفت بالطلاق إن المؤذن من الجن. فأجبنا عن مسألتنا وافتنا في أيماننا، وذلك مما لا أجده في كتاب الله عز وجل ولا في سنه نبيه- صلى الله عليه وسلم-، ولا أخبرنا الله به ولا رسوله كان علي يا أمير المؤمنين أن أجيبهم في مسألتهم وأفتيهم في أيمانهم، فقال المأمون لا ليس عليك إجابتهم ولا فتياهم، فقلت: صدقت يا أمير المؤمنين لا يجوز لي ولا لغيري بأن يقض بينهم ولا يفتيهم إلا أن يكون الله عز وجل قد أخبر عن ذلك في كتابه أو عن علم الله، وهو مما لا يوجد في كتابه ولا في سنة نبيه، ولا أخبرنا الله به ولا رسوله، وقد أكذب الله بشرا على لسان أمير المؤمنين أطال الله بقاه فيما ادعاه من وجوب الجواب علي وفتوى من جهل في مسألته وحمق في يمينه، فقال: أحسنت أحسنت يا عبد العزيز.
فقال بشر: واحدة بواحدة يا أمير المؤمنين، سألني عبد العزيز أن أقول لله علماُ فلم أجبه، وسألته ما علم الله فلم يجبني فقد استوينا في الحيدة عن الجواب، ونخرج عن هذه المسألة إلى غيرها، وندعها على غير حجة تثبت لأحدنا على صاحبه فيما قال.
قال عبد العزيز: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك إن بشرا قد أفحم وانقطع عن الجواب ودحضت حجته وبقي لا حجة يقيمها لهذا المذهب الذي كان يدعو الناس إليه، فلجأ إلى أن يسألني عن مسألة محال يحتج بها علي ليقول: سألني عبد العزيز عن مسألة فلم أجبه، وسألته عن مسألة فلم يجبني عنها، وقد قال ذلك، وأنا وبشر يا أمير المؤمنين على غير السواء في مسألتنا، لأني سألته عما أخبر الله به وشهد به على نفسه وشهدت له الملائكة به، وتعبد الله عز وجل نبيه- صلى الله عليه وسلم- وسائر الخلق بالإيمان به بقوله: {وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ} فوجب على نبيه- صلى الله عليه وسلم- وعلى الخلق جميعًا الإيمان بما أنزل الله من كتاب، وبشر يا أمير المؤمنين يأبى أن يؤمن بذلك أو يقر به أو يصدقه. وسألني بشر عن مسالة ستر الله علمها عن الملائكة، وأهل ولايته جميعًا، وعني وعن بشر وعن سائر الخلق جميعًا، ممن مضى وممن هو آت إلى يوم القيامة فلم يعلمها أحد قبلنا ولا يعلمها أحد بعدنا، فلم يكن لي أن أجيبه عن مسألته، وإنما يدخل النقض علي يا أمير المؤمنين لو كان بشر يعلم ما سألني عنه أو غيره من العلماء، وكنت أنا لا أعلمه، فأما إذا اجتمعنا جميعًا أنا وبشر وسائر الخلق في جهل هذه المسألة وقلة العلم بها، فليس الضرر بداخل عليَّ دونه، وهذه مسألة لا يحل أن يسأل عنها، ولا يحل لأحد يجيب فيها لأن الله عز وجل حرم ذلك عليه.
قال عبد العزيز: فقال لي المأمون: أنتما في مسألتكما على غير السواء، وقد صح قولك في هذه المسألة يا عبد العزيز وبان ووضح وظهرت حجتك على بشر فيها.